سورة الحجر - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحجر)


        


يقول الحق جل جلاله: {ولقد جعلنا في السماء بروجاً}؛ اثني عشر برجاً، وهي: الحَمَل، والثور، والجَوْزاء، والسرطان، والأسد والسُّنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجَدْي، والدلو، والحوت، والبرج عبارة عن قطعة في الفلك تقطعها الشمس في شهر؛ فتقطع البروج كلها في سنة، ستة يمانية، وستة شمالية، وهي مختلفة الهيئات والخواص، على ما دل عليه الرصد والتجربة. وكل ذلك بقدرة المدبر الحكيم. قال تعالى: {وزيَّناها} بالأشكال والهيئات البهية {للناظرين} المعتبرين؛ ليستدلوا بها على قدرة مبدعها، وتوحيد صانعها. {وحفظها من كل شيطانٍ رجيمٍ}: مرجوم، فلا يقدر أن يصعد إليها ليسترق السمع منها، أو يوسوس أهلها، أو يتصرف في أمرها، أو يطلع على أحوالها.
{إلا من استَرَق السمعَ} أي: حفظناها من الشياطين، إلا من استرق منها. والاستراق: الاختلاس، رُوي أنهم يركبون بعضهم بعضاً حتى يصلوا إلى السماء، فيسمعون أخبار السماء من الغيب، فيخطف الجن الكلمة قبل الرمي فيلقيها إلى الكهنة، ويخلط معها مائة كذبة، كما في الصحيح. رُوي عن ابن عباس: أنهم كانوا لا يحجبون عن السماوات، فلما ولد عيسى عليه السلام مُنعوا من ثلاث سماوات، فلما وُلد محمد صلى الله عليه وسلم مُنعوا من كلها بالشهب. وقيل: الاستثناء منقطع، أي: ولكن من استرق السمع، {فأتبعه} لحقه {شهابٌ مبين}؛ ظاهر للمبصرين. والشهاب: شُعلة نار يقتبسها الملك من النجم، ثم يضرب به المسترق، وقيل: النجوم هي التي تضرب بنفسها، فإذا أصابت الشيطان فتلته أو خبلته فيصير غولاً.
ثم ذكر معجزة الأرض فقال: {والأرضَ مددناها}: بسلطناها، {وألقينا فيها رواسيَ}؛ جبالاً ثوابت، {وأنبتنا فيها}؛ في الأرض، أو فيها أو في الجبال {من كل شيء موزونٍ}؛ مقدر بمقدار معين تقتضيه حكمته. فالوزن مجاز، أو ما يكون يوزن حقيقة كالعشب النافعة، أو كالذهب والفضة وسائر الأطعمة. {وجعلنا لكم فيها معايش} تعيشون بها من المطاعم والملابس، {و} خلقنا لكم {من لستم له برازقين} من الولدان والخدمة والمماليك، وسائر ما تظنون أنكم ترزقونهم كاذباً؛ فإن الله يرزقكم وإياهم.
قال البيضاوي: وفذلكة الآية: الاستدلال بجعل الأرض ممدودة بمقدار معين، مختلفة الأحزاء في الوضع، محدثة فيها أنواع النباتات والحيوانات المختلفة خلقة وطبيعة، مع جواز ألا تكون كذلك؛ على كمال قدرته، وتناهي حكمته، والتفرد في ألوهيته، والامتنان على العباد بما أنعم في ذلك ليوحدوه ويعبدوه. ثم بالغ في ذلك فقال: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه} أي: وما من شيء إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه أضعاف ما وجد منه، فضرب الخزائن مثلاً لاقتداره أو شبه مقدوراته بالأشياء المخزونة التي لا يجوج إخراجها إلى كلفة واجتهاد. اهـ. قال ابن جزي: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنُه}؛ قيل: المطر، واللفظ أعم من ذلك، والخزائن: المواضع الخازنة، وظاهر هذا أن الأشياء موجودة قد خلقت. اهـ.
{وما نُنَزَّله} أي: نبرزه من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، {إلا بقَدَر معلوم}: بمقدار محدود في وقت معلوم اقتضته الحكمة وتعلقت به المشيئة، لا يزيد ولا ينقص على ما سبق به العلم.
{وأرسلنا الرياحَ لواقحَ}: حوامل للماء في أوعية السحاب، يقال: لقحت الناقة والشجرة إذا حملت، فهي لاقحة، وألْقَحَت الريحُ الشجرَ فهي ملقحة. ولواقح: جمع لاقحة، أي: حاملة، أو جمع ملقحة على حذف الميم الزائدة، فهي على هذا ملقحة للسحاب أو الشجر، ونظيره: الطوائح، بمعنى المطيحات في قوله:
ومُخْتَبِط مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ ***
والرياح أربعة: صَبَا، ودَبُور، وجَنوب، وشمال. والعرب تسمي الجنوب الحامل واللاقحة، وتسمى الشمال الحائل والعقيم. وفي البخاري: «نُصِرْتُ بالصِّبَا، وأُهْلكَتْ عَادٌ بالدُّبُور». وروي أبو هريرة رضي الله عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الرِّيحُ الجنوب من الجنة، وهي اللواقح التي ذكر الله، وفيها منافع للناس» وفي الحديث: «الرِّيحُ من نفس الرحمن» والإضافة هنا إضافة خلق إلى خالق، كما قال: {مِن رُّوحِي} [الحجر: 29]. ومعنى نفس الرحمن، أي: من تنفيسه وإزالة الكرب والشدائد، فمن التنفيس بالريح: النصر بالصبا، وذر الأرزاق بها، وجلب الأمطار، وغير ذلك مما يكثر عده. قاله ابن عطية.
والمختار في تفسير اللواقح: أنها حاملة للماء، قوله: {فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه} أي: جعلنا لم سقيا. يقال: سقى وأسقى بمعنى واحد عند الجمهور. {وما أنتم له بخازنين}: بممسكين له في الجبال، والغدران، والعيون، والآبار، فتخرجونه متى شئتم، بل ذلك من شأن المدبر الحكيم، فإن طبيعة الماء تقتضي الغور، فوقوفه دون حد لا بد له من مسبب مخصص، وجريه بلا انتهاء لا يكون إلا بقدرة السميع العليم، الذي لا تتناهى قدرته. أو: {وما أنتم له بخازنين}؛ بقادرين متمكنين من إخراجه وقت الاحتياج إليه. نفى عنهم ما أثبته لنفسه بقوله: {عندنا خزائنُه}.
{وإنا لنحن نُحيي ونُميت} أي: نحيي من نريد إحياءه بإيجاد الحياة فيه، ونميت من نريد إماتته بإزالة الحياة منه. وقد أول الحياة بما يعم الحيوان والنبات. وتكرير الضمير؛ للدلالة على الحصر. {ونحن الوارثون}: الباقون إذا مات الخلائق كلهم.
{ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين} أي: علمنا من تقدم؛ ولادةً، ومن تأخر، أو من خرج من أصلاب الرجال ومن لم يخرج بعدُ، أو من تقدم إلى الإسلام والجهاد وسبق إلى الطاعة، ومن تأخر، لا يخفى علينا شيء من أحوالكم. وهو بيان لكمال علمه بعد الاحتجاج على كمال قدرته، فإنَّ ما يدل على كمال قدرته دليل على كمال علمه. وقيل: رغّب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصف الأول، فازدحموا عليه، فنزلت، وقيل: إن امرأة حسناء كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه، فتقدم بعض القوم؛ لئلا ينظر إليها، وتأخر بعض؛ ليبصرها، فنزلت.
قاله البيضاوي: {وإن ربك هو يحشرهم} لا محالة للجزاء، كأن هذا هو الغرض من ذكر العلم بالمتقدمين والمتأخرين؛ لأنه إذا أحاط بهم علماً لم تصعب عليه إعادتهم وحشرهم. {إنه حكيمٌ} باهر الحكمة، {عليم}؛ واسع العلم والإحاطة بكل معلوم. قال البيضاوي: وفي توسيط الضمير يعني في قوله: {هو يحشرهم}؛ للدلالة على أنه القادر والمتولي لحشرهم لا غيره، وتصدير الجملة بأن؛ لتحقيق الوعيد والتنبيه على أن ما سبق من الدلالة على كمال قدرته وعلمه بتفاصيل الأشياء يدل على صحة الحكم. اهـ.
الإشارة: ولقد جعلنا في سماء قلوب العارفين بروجاً، وهي المقامات التي ينزلون فيها بشموس عرفانهم، وهي: التوبة، والخوف، والرجاء، والورع، والزهد، والصبر، والشكر، والرضى، والتسليم، والمحبة، والمراقبة، والمشاهدة. وزيناها للناظرين؛ أي: السائرين حتى يقطعوها جملة محمولين بعناية الجذب، حتى يَحلو لهم ما كان مُراً على غيرهم، وحفظنا سماء قلوبهم من طوارق الشيطان، إلا ما كان طيفاً خيالياً لا يثبت، بل يتبعه شهاب الذكر فيحرقه، وأرضَ النفوس مددناها لقيام رسم العبودية، وظهور عالم الحكمة وآثار القدرة، وألقينا فيها جبال العقول الرواسي، لتعرف الرب من المربوب الذي اقتضته الحكمة. وأنبتنا فيها من العلوم الرسيمة والعقلية، ما قدر لها في العلم المكنون، وجعلنا لكم فيها من علم اليقين، وحق اليقين ما تتقوت به قلوبكم، وتعيش به أرواحكم وأسراركم، وتعولون به من لستم له برازقين من المريدين السائرين.
سُئل سهل رضي الله عنه عن القوت، فقال: هو الحي الذي لا يموت، فقيل: إنما سألناك عن القوام. فقال: القوام هو العلم، فقيل: سألناك عن الغذاء، فقال: الغذاء هو الذكر، فقيل: سألناك عن طعام الجسد، فقال: ما لَكَ وللجسد، دع من تولاَّه أولاً يتولاه آخراً، إذا دخلت عليه علة رده إلى صانعه، أما رأيت الصنعة إذا عيبت ردوها إلى صانعها حتى يصلحها. وأنشدوا:
يَا خادِمَ الجِسْمِ كَمْ تَشْقَى بِخِدْمَتِهِ *** وتَطلُب الربْحَ مما فيه خُسْرَانُ
عليك بالنفسِ فاستكمل فَضِِيلَتَهَا *** فأنت بالنفس لا بالجسم إنسانُ
واستكمال فضيلة النفس هو تزكيتها وتحليتها حتى تشرق عليها أنوار العرفان، وتخرج من سجن الأكوان. وبالله التوفيق. ثم قال تعالى: {وإن من شيء} من الأرزاق المعنوية والحسية، أو العلوم اللدنية، والفتوحات القدسية {إلا عندنا خزائنه}؛ فمن توجه بكليته إلينا فتحنا له خزائن غيبنا، وأطلعناه على مكنون سرنا شيئاً فشيئاً، {وما نُنزله إلا بقدر معلوم}. وقال الورتجبي: عِلْم الإشارة في الآية: دعوة العباد إلى حقائق التوكل، وهي: قطع الأسباب، والإعراض عن الأغيار، قيل: كان الجنيد رضي الله عنه إذا قرأ هذه الآية: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه}، قال: فأين تذهبون؟. وقال حمدون: قطع أطماع عبيدهِ سواه بقوله: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه}، فمن رفع بعد هذا حاجته إلى غيره، فهو لجهله ولؤمه. اهـ.
وأرسلنا رياح الهداية لواقح، تلقح الطمأنينة والمعرفة في قلوب المتوجهين، وتلقح اليقين والتوفيق في قلوب الصالحين، وتلقح الإيمان والهداية في قلوب المؤمنين، فأنزلنا من ساء الغيب ماء العلم اللدني، فأسقيناكموه على أيدي وسائط الشيوخ، أو بلا واسطة، وما أنتم له بخازنين، بل يفيض على قلوبكم عند غلبة الحال، أو لهداية مريد، أو عند الاحتياج إليه عند استفتاح القلوب، وإنا لنحن نُحيي قلوباً بالمعرفة واليقين ونميت قلوباً بالجهل والكفر، ونحن الوارثون؛ لبقاء انوارنا على الأبد. ولقد علمنا المستقدمين منكم إلى حضرة قدسنا بالاستعداد، وإعطاء الكلية من نفسه، ولقد علمنا المستأخرين عنها بسبب ضعف همته، وإن ربك هو يحشرهم؛ فيُقرب قوماً لسبقهم، ويبعد آخرين لتأخرين. إنه حكيم عليم.


قلت: قال في الصحاح: الحَمأُ الْمسنُون: المنتنُ المتغير. وسُنَّةُ الوجه: صورته، ثم قال: والمسْنُونُ: المصَوَّرُ، وقد سَنَنتُهُ أَسُنُّه سَنَّا إذا صَوَّرتُه، والمسْنُونُ: المُملَّسُ. وفي القاموس: الحَمأُ المسْنُونُ: المنْتنُ، ورجُل مَسْنُونُ الوجه: مُمَلسُهُ، حَسنُهُ، سَهْلُهُ. أو في وَجْهِهِ وأنْفِهِ طُولٌ. وسنن الطين: عمله فخاراً. اهـ. وفي ابن عطية: هو من سننت السكين والحجر: إذا أحكمت تلميسه. انطر بقية كلامه. وموضع {من حمأ}: نعت لصلصال، أي: كائن من حمأ. و{الجان}: منصوب بمحذوف يفسره ما بعده.
يقول الحق جل جلاله: {ولقد خلقنا الإنسان}؛ أي: أصله، وهو آدم، {من صَلصَالٍ} أي: طين يابس يصلصل. أي: يصوت إذا نقر فيه وهو غير مطبوخ، فإذا طُبخ فهو فخار، {من حمأٍ}: من طين أسود {مسنونٍ}: متغير منتن، من سننت الحجر على الحجر إذا حككته به؛ فإنَّ ما يسيل بينهما يكون منتناً، ويسمى سنيناً. أو مسنون: مصور، أو مصبوب ليتصور، كالجواهر المذابة تصب في القوالب، من السن، وهو الصب، كأنه أفرغ الحمأ فصور منها تمثال إنسان أجوف، فيبس حتى إذا نقر صلصل، ثم غير ذلك طوراً بعد طور حتى سواه ونفخ فيه من روحه.
{والجانَّ} وهو: إبليس الأول، ومنه تناسلت الجن {خلقناه من قبلُ} أي: من قبل خلق الأنسان، {من نار السَّمُوم}: من نار الحر الشديد النافذ في المسام، ولا يمتنع خلق الحياة في الأجرام البسيطة، كما لم يمتنع خلقها في الجواهر المجردة؛ فضلاً عن الأجساد المؤلفة، التي الغالب فيها الجزء الناري، فإنها أقبل منها لها من التي الغالب فيها الجزء الأرضي. وقوله: {من نار}: لاعتبار الغالب، كقوله: {خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ} [فاطر: 11]. ومساق الآية كما هو للدلالة على قدرة الله تعالى، وبيان بدء خلق الثقلين، فهو للتنبيه على المقدمة الثانية التي يتوقف عليها إمكان الحشر، وهو قبول المواد للجمع والإحياء. قاله البيضاوي.
الإشارة: اعلم أن الخمرة الأزلية، حين تجلت في مرائي جمالها، تلونت في تجليها، فتجلت نورانية ونارية، ومائية وترابية، وسماوية، وهوائية، إلى غير ذلك من ألوان تجلياتها، فكانت الملائكة من النور، والجن من النار، والآدمي من التراب، إلا أن الادمي فيه روح نورانية سماوية، فاجتمع فيه الضدان: النور الظلمة؛ فشرف قدره في الجملة، فاستحق الخلافة، فإذا غلبت روحانيته على جسمانيته فضل على جميع التجليات، وما مثاله إلا كالمرآةِ التي خلفها الطلاءُ، فينطبع فيه الوجود بأسره، إذا صقلت مرآة قلبه، فتكون معرفته بالحق أجلى وأنصع من معرفة غيره؛ لأن المرآة التي خلفها الطلاء يتجلى فيها ما يقابلها أكثر من غيرها. وأيضاً بشرية الآدمي كالياقوتة السوداء إذا صقلت كانت أعظم اليواقيت. وسيأتي بقية الكلام عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70] إن شاء الله.


قلت: {وإذْ قال}: ظرف لاذكر، وقوله: {فَقَعُوا}: امرٌ، من وقَع، يقع، قَعْ، فهو مما حُذفت فاؤه. وقوله: {فسجد} معطوف على محذوف، أي: فخلقه، وأمر الملائكة فسجدوا.
يقول الحق جل جلاله: {و} اذكر يا محمد {إذْ قال ربك للملائكة}، قبل خلق آدم: {إني خالق بشراً من صَلْصَالٍ من حمأٍ مسنونٍ}، وصفه لهم بذلك ليظهر صدق من يمتثل أمره، قال تعالى: {فإذا سويتُه}: عدلت خلقته وهيأتها لنفخ الروح فيها، {ونفختُ في من روحي}؛ حين جرى آثاره في تجاويف أعضائه فحيي، وأصل النفخ: إجراء الروح في تجويف جسد آخر. ولما كان الروح يتعلق أولاً بالبخار اللطيف المنبعث من القلب، وتفيض عليه القوة الحيوانية فيسري في تجاويف الشرايين إلى أعماق البدن، جعل تعلقه بالبدن نفخاً. قاله البيضاوي. وأضاف الروح إلى نفسه إضافة ملك إلى مالك، اي: من الروح الذي هو لي، وخلق من خلقي.
فإذا نفخت فيه {فَقَعوا}: فأسقطوا {له ساجدين فسجد الملائكةُ} حين أكمل خلقته، وأمرهم بالسجود، وقيل: اكتفى بالأمر الأول، {كلُّهم أجمعون}، أكد بتأكيدين للمبالغة في التعميم ومنع التخصيص، {إلا إبليس أبى}: امتنع {أن يكون مع الساجدين}، قال البيضاوي: إن جُعِل الاستثناء منقطعاً اتصل به قوله: {أبَى}؛ أي: لكن إبليس أبَى أن يسجد، وإن جُعِل متصلاً كان قوله: {أبَى}: استئنافاً، على أنه جواب سائل قال: هلا سجد؟ فقال: أبى.. الخ. قلت: والأحسن: أن يقدر السؤال بعد قوله: {إلا إبليس أبى} أي: وما شأنه؟ فقال: أبى أن يكون مع الساجدين.
قال تعالى: {يا إبليس ما لكَ}؛ أي شيء عرض لك، {ألا تكونَ مع الساجدين} لآدم؟ {قال لم أكن لأسجُدَ} أي: لا يصح مني، بل ينافي حالي أن أسجد {لبشرٍ} جسماني كثيف، وأنا روحاني لطيف، وقد {خلقتَه من صلصالٍ من حمإ مسنونٍ}، وهو أخس العناصر، وخلقتني من نار وهي أشرفها. استنقص آدم من جهة الأصل، وغفل عن الكمالات التي خصه الله بها، منها: أنه خلقه بيديه بلا واسطة، أي: بيد القدرة والحكمة، بخلاف غيره، ومنها: أنه خصه بالعلوم التي لم توجد عند غيره من الملائكة، ومنها: أنه نفخ فيه من روحه المضافة إلى نفسه، ومنها: أنه جعله خليفة في أرضه... إلى غيره ذلك من الخواص التي تشرف بها فاستحق السجود.
قال له تعالى لَمَّا امتنع واستكبر: {فاخرجْ منها} أي: من السماء، أو من الجنة، أو من زمرة الملائكة، {فإنك رجيمٌ}: مطرود من الخير والكرامة؛ فإنَّ من يُطرد يُرجم بالحجر، أو شيطان يُرجم بالشهب، فهو وعيد يتضمن الجواب عن شبهته، أي: ليس الشرف بالأصل، إنما الشرف بالطاعة والقرب. {وإن عليك اللعنةَ}: الطرد والإبعاد {إلى يوم الدين}؛ يوم الجزاء، ثم يتصل باللعن الدائم.
وقيل: إنما حد اللعن لأنه أبعد غاية يضربها الناس، أو لأنه يعذب فيه بما ينسى اللعن، فيصير كأنه زال عنه ذلك اللعن.
{قال ربِّ فأنْظِرني}: أخرني {إلى يوم يُبعثون}، أراد أن يجد فسحة في الإغواء، ونجاة من الموت، إذ لا موت بعد وقت البعث، فأجابه إلى الأول دون الثاني، {قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم}: المعين فيه أجلك عند الله، وانقراض الناس كلهم، وهو النفخة الأولى عند الجمهور.
وهذه المخاطبة، وإن لم تكن بواسطة، لا تدل على منصب إبليس؛ لأن خطاب الله له على سبيل الإهانة والإذلال. قاله البيضاوي. وجزم ابن العربي، في سراج المريدين، بأن كلام الحق تعالى إنما كان بواسطة، قال: لأن الله لا يكلم الكفار الذين هم من جند إبليس، فكيف يكلم من تولى إضلالهم. اهـ. وتردد المازُريُّ في ذلك وقال: لا قاطع في ذلك، وإنما فيه ظواهر، والظاهر لا تفيد اليقين. ثم قال: وأما قوله: {ما منعك أن تسجد}: فيحتمل أن يكون بواسطة أو بغيرها، تقول العرب: كلمت فلاناً مشافهة، بالكلام، وتارة بالبعث. اهـ. قلت: الظاهر أنه كلمه بلا واسطة من وراء حجاب، كلامَ عتابٍ وإهانة، كما يوبخ الكفار يوم القيامة، مع أن الواسطة محذوفة عند المحققين، وإن وُجِدَتْ صُورَةً.
ثم قال: {ربِّ بما أغويتني} أي: بسبب إغوائك لي، {لأُزَيِّنَنَّ لهم في الأرض}، وقيل: الباء للقسم، أي: بقدرتك على إغوائي، لأزينن لهم المعاصي والكفر في الدنيا، التي هي دار الغرور. قال ابن عطية: قوله: {رَبِّ}: مع كفره، يُخرج على أنه يقر بالربوبية والخلق، وهذا لا يدفع في صدر كفره. وقال، على قوله: {لم أكن لأسجد}: ليس هذا موضع كفره عند الحذاق؛ لأن إبايته إنما هي معصية فقط، أي: وإنما كفره لاعتراضه لأمر الحق واستكباره. وأما قوله وتعليله فإنما يقتضي أن آدم مفضول، وقد أمره أن يسجد لمن هو أفضل منه، فرأى أن ذلك جور، فقاس وأخطأ، وجهل أن الفضائل إنما هي حيث جعلها الله تعالى المالك للجميع. اهـ. مختصراً. وقال المازري: أما كفر إبليس فمقطوع به؛ لقوله: {واستكبر وَكَانَ مِنَ الكافرين} [البقرة: 34] ثم قال: ويؤكده قوله: {ربِّ بما أغويتني}، وقوله: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ...} الآية [ص: 85]، وغير ذلك من ظواهر ما يدل على كفره.
وأما: هَلْ حدث هذا الكفر بعد إيمان سابق، أو لم يزل كافراً منذ كان؟ فهذا لا يحصله إلا نص قرآن، أو خبر متواتر، أو إجماع أمة، وهي المحصلة للعلم، وهذه الثلاثة مفقودة هنا. اهـ. قلت: والظاهر أن كفره لم يظهر إلا بعد الأمر بالسجود لآدم، وإنما سبق به العلم القديم، وكان قد أظهر الإيمان والعبادة والله تعالى أعلم.
وقوله: {ولأغوينّهم أجمعين}؛ أي: لأحملنهم على الغواية أجمعين، {إلا عبادكَ منهم المخلَصين}؛ الذين أخلصتهم لطاعتك، وطهرتهم من الشهوات، فلا يعمل فيهم كيدي.
ومن قرأ بالكسر فمعناه: الذين أخلصوا دينهم لله، وتحصنوا بالإخلاص في سائر أعمالهم. {قال} تعالى: {هذا صراطٌ عليَّ مستقيمٌ}؛ الإشارة إلى نجاة المخلصين، أو إلى العبادة والإخلاص، أي: هذا الطريق الذي سلكه أهل الإخلاص في عبوديتهم هو طريق وارد عليَّ، وموصل إلى جواري، لا سبيل لك على أهله؛ لأنه مستقيم لا عوج فيه. وقيل: الإشارة إلى انقسام الناس إلى غاوٍ ومخلص، أي: هذا أمر إليَّ مصيره، والنظر فيه لي، عليَّ أن أراعيه وأبينه، مستقيم لا انحراف فيه. وقرأ الضحاك ومجاهد والنخعي، وغيرهم: عَلِيٌّ؛ بكسر اللام والتنوين، من العلو والشرف، والإشارة حينئذٍ إلى الإخلاص، أي: هذا الإخلاص طريق رفيع مستقيم لا تنال أنت بإغوائك أهلَه يا إبليس.
الإشارة: إنما يصعب الخضوع للجنس أو لمن دونه، في حق من يغلب حسه على معناه، وفرقُه على جمعه وأما من غلب معناه على حسه، حتى رأى الأشياء الحسية أواني حاملة للمعاني، أي: لمعاني أسرار الربوبية، بل رآها أنواراً بارزة من بحر الجبروت، لم يصعب عليه الخضوع لشيء من الأشياء؛ لأنه يراها قائمة بالله، ولا وجود لها مع الله، فلا يخضع حينئذٍ إلا لله، فالملائكة- عليهم السلام- نفذت بصيرتهم، فرأوا آدم عليه السلام عليه قبلة للحضرة القدسية، فغلب عليهم شهود المعاني دون الوقوف مع الأواني، فخضعوا لآدم صورةً، ولله حقيقة. وإبليس وقف مع الحس، وحجب بالفرق عن الجمع، فلم ير إلا حس آدم معناه، فامتنع عن السجود، وفي الحِكَم العطائية: فمن رأى الكون، ولم يشهد الحق فيه، أو عنده، أو قبله، أو بعده، أو معه، فقد أعوزه وجود الأنوار، وحجبت عنه شموس المعارف بحب الآثار . ولهذا المعنى صعب الخضوع للأشباح؛ لغلبة الفرق على الناس، إلا من سبقت له العناية، فإنه يخضع مع الفرق؛ محبة لله، حتى يفتح الله عليه في مقام الجمع، فيخضع لله وحده. والتوفيق لهذا، والسير على منهاجه أعني الخضوع لمن يوصل إلى الله هو الصراط الذي أشار إليه الحق تعالى بقوله: {هذا صراط عَلَيَّ مستقيم}. والله تعالى أعلم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5